د. ندى برنجي

مين...؟؟ مين؟؟

في هذه القصة الرمزية تعبر الكاتبة عن مكنون نفس البطلة "فضة" وصراعها الوجداني، وذلك بطرح عدة أسئلة، تبدأ بالسؤال "مين؟" تلخص قصتها وفقاً لمراحل حياتها.

 

بداية القصة مشوقة وغامضة، تجذب القارئ لمعرفة المزيد عن تلك المرأة الكونية، ومدى ارتباطها بـ"فضة". وتتوالى الأحداث عن طريق الرمز والتمحور حول شخصية من الشخصيات ممهدة لعقدة القصة المتمثلة في إحباط شديد، تعرضت له "فضة" بزواجها من رجل غريب لم تشعر معه بالسعادة. وتتلاحق الأحداث برضوخها لمصيرها المحتوم ومحاولة أمها إقناعها بالتعايش معه حتى تنجب طفلها الأول عندئذ تستقيم حياتها الزوجية. ثم تنتهي القصة بانهزام "فضة" وإصابتها بالصدأ، وعزوف المرأة الغبارية "المصنوعة من غبار المجرات" عنها، وانشغالها بأختها عائشة التي أخذت تستعد للزواج.

 

ويفتح استخدام أداة الاستفهام باللهجة العامية "مين؟" البابَ لتساؤلات عدة، منها (مَن القادم؟، مَن الزوج المُنتظر؟...)، ونلحظ أن كل فقرة تبدأ بها، تُشير إلى شخص ما، تتمحور حوله الأحداث:

في الفقرة الأولى تتساءل "فضة" عن هوية تلك المرأة، فهي تبحث عن المرأة التي بداخلها، وتتشكل حولها الأحداث. هذه المرأة تُباغتها كثيراً في اللحظات التي تغيب فيها روحها، وتظل تلك المرأة نافرة ونائية في الداخل، تريد أن تُطل برأسها في لحظات الصمت، وهي ذات الغبار المفضض المغوي، على الرغم من صغر سن "فضة" طالبة المدرسة التي تستذكر دروسها وهي تتأمل الجدار، تستوحي منه رسومات وشخوصاً عدة.

 

تفضل "فضة" -وهي شخصية انطوائية- الصمتَ الذي يحيطها، ويعزلها عن واقعها المشتت في بيت متواضع، طلاء جدرانه متقشر، تصفه بأنه كأبراج الحمام، بيت يضم أمَّها المنكسرة التي لم تحب أباها إلا بعد ولادة طفلها الأول "محمد"، وأباها الضابط المشتت بين زوجتَيْه، أمّها وزوجة أبيها السـورية التي تحن دوماً إلى وطنها، وتحاول بشتى الوسائل أن تجذب الأب إليها، وإخوتها المزعجين.

 

يمثل الصمت العزيز لديها شيئاً ثميناً، فهو "الخوذة" و"الشرنقة" اللتان تحتمي بهما، و"قطعة المغناطيس" التي تجمع شذراتها، أما المرأة التي في داخلها فهي امرأة غريبة عن واقعها، امرأة هُلامية لامعة ليست لها ملامح، مصنوعة من غُبار النجوم امرأة تأتي من عالم آخر عالم الفضاء والمجرَّات، امرأة "محمومة وشهوانية ولعوب" ذات هالة متوهجة، امرأة اصطحبت "فضة" في بداية القصة لتغيّر واقعها، وتجعلها أكثر جرأة في مواجهة الواقع والمصير المحتوم، ولكنها ما لبثت أن تخلت عنها، وهجرتها وخلَّفتها خاوية، يعلوها الصدأ، لأنها لم تستطع أن تتغلب على ضعفها، ولم تقوَ على مواجهة المستحيل، فتصرّ على الانفصال عن زوجٍ تشعر معه بالغربة.

 

تظهر هذه المرأة في لحظات الصمت، وتمنعها من الظهور الضوضاءُ التي تمثل حالة معاكسة للصمت الذي تتمحور حوله "فضة" وتلتقي عبره بمكنون ذاتها.

 

وهي توحي للفتيات بحياة وردية، تشعر المرأة فيها بأهميتها، وأنها كائنٌ يستحق الحياة الكريمة والسعادة الزوجية. ولعل وصفها لخطوتها بالثبات والتصميم يعكس مدى عطشها وتشوّقها لرسم صورة للمرأة الحُلُم تلك التي تمتلك القدرة على تحديد مصيرها.

 

ويرمز الفضاء والمجرات إلى الخلود واللانهاية، حيث عالم الأفكار الجديدة الجريئة والانعتاق من حدود العادات والتقاليد البالية، وكم تمنت "فضة" أن تعيش في مكان وزمان لا ينتميان لواقعها.

 

كما يرمز الكون إلى عالم "عَلِّي" وبيئة مختلفة تود "فضة" الوصول إليها. أما الغبار الكوني فهو الأمل البعيد غير المتجسد، واللمعان هو القوى الجاذبة التي تشد إليها "فضة" المأزومة في عتمة واقعها.

 

وتأتي "مين؟" في الفقرة الثانية لتطرح علينا سؤالاً "مَن هُو علي؟" وتقدم لنا ذلك الشاب الذي يُطارد مستهتراً حافلةَ الفتيات، ويحاول غوايتهن بكتابة رقم هاتفه على لوحةٍ مؤملاً أن تقع إحداهن في شباكه. كما تغوي المرأة ذات الغُبار الكوني "فضة"، فتجعلها ترتدي قميص نوم زوجة أبيها، وتُهاتف "علياً" وتبعث إليه قبلة عبر السماعة.

 

وفي الفقرة الثالثة تعني "مين" "مَن هُو محطِّم الأحلام؟" مَن العريس المجهول المُرتقب أو الكُتلة السوداء المدوَّرة التي تظهر ببطء وحذر وتُباغت كالموت. هذا الكائن السوداوي المُنتفخ الذي يرمز للمصير المجهول، للعريس الكئيب المُقبل، المتخوَّف الذي يتقدّم بحذر وبطء، وللحرامي الذي سوف يسرق حياتها وسعادتها ويُبعدها عن المرأة الكونية محطماً كل أحلامها. ذُعرت "فضة" من هذا المجهول، فانتشلتها المرأة الغبارية بعيداً عن مخاوفها، ولكنها على الرغم من ذلك لم تجسر على إغلاق البوابة "بوابة الزواج أو الموت المرتقب". وبعد عام تُزف إلى ذلك العريس ذي الوجه المثلث.

 

وتشير الفقرة الرابعة إلى تساؤلها عمن يكون زوجها؟ مَن الغريب الذي لم ترهُ ولم يرهَا هو الآخر لعزوفه عن طلب الرؤية الشرعية. ولعمله بالبريد تتوقع شبهه بعمها "مسفر".

 

في الفقرة الخامسة تعيد التساؤل عن ماهية ذلك الغريب "مَن هُو العريس؟" الذي توهّمت شبهه بعمها، واكتشفت أنه غير وسيم وأقصر من أبيها، وأن وجهه وعينيه مستديرة، وأنفه حاد أقنى كطائرة الكونكورد، وأنه من عائلة ملتزمة ترفض سماع الأغاني ولكنها أرادت أن تُرجئ حكمها إلى وقتٍ لاحق آملة أن تجد صفاتٍ أفضل في ذلك الغريب القبيح.

 

في هذه الفقرة نرى "فضة" مغلوبة على أمرها، يُزْرَع الورد في يديها رغماً عنها، ويبدو لها متورماً مكتوماً. وتترائى لها الخيالات المُغرِّبة لها عن واقعها، فتتخيل صوراً تمثل المرأة الأخرى الأجنبية التي تستمع بحريتها، وتنعم بسعادتها، فتشاهد على جدران غرفتها تلك الأميرة الشقراء ذات القبعة المخملية، تحمل مظلة الدانتيل وتتنزه بجانب البحيرة، وتتمثل لها المرأة الكونية ساخرة منها، وهي تتألم ليلة زفافها لإجبارها على الزواج من رجلٍ تنفر منه.

 


آخر تحديث
3/16/2018 9:29:00 PM