د. سعيدة شهاب

قراءة في قصة (مين ؟...مين؟)

 

للقاصة  أميمة الخميس

.......................................................

 

مين؟ مين؟  سؤال  رافق البطلة ( فضة) وهي تبحث عن نفسها  في صراع نفسي رهيب بين واقع ترفضه،وحلم تعيشه .

 

تحت هذا السؤال تكمن صرخة مكتومة  تحته إجابة صارخة: لست أنا  في عالم الواقع.وأريد أن أكون أنا الأخرى التي لم يساعدها واقعها الأسري والاجتماعي . فضة بشخصتين

شخصية المرأة التي فرضها واقع  المجتمع بضوابطه وقوانينه ،التي عبرت عنه القاصة برمزية اللون والصوت ...المرأة كانت المحور الرئيس في القصة :

الأم الخانعة  المغلوبة على أمرها الزوجة الأولى التي لاتجروء حتى على التذمر بصوت عال، على الرغم من أن التذمر عادة يسبق الصوت فيه الجملة إلا أنه (تذمر منكسر  )

وزوجة أبيها السورية  ليست في حال أفضل من أي واحدة منهن في منزل هذا الأب العسكري الصارم ،فصوت حنينها الصامت (الدائم إلى ساحل (طرطوس) والمناقيش بالزعتر) لا يجروء هوا لآخر على أن يتحول إلى صراخ يكسر سياج سجن والدها الصارم أمامهن المتهاوي أمام ملذاته ...

 

وصوت أخواتها غير المفهوم والواضح...إنه مجرد ( صخب ) لم يترجم بعد إلى صوت مفهوم ؛لأنهن لم يدركن بعد  صوت الجملة المفيدة للتعبير عن واقعهن المستقبلي، ولم يتعرفن بعد على عالم الأحلام .. فهل سيكون صوت ( الحنين ... أم التذمر المنكسر الصامت.. أم عالم النجوم الذي تحلق فيه فضة... فضة التي اتخذت من الصمت خوذة عسكرية تحميها من الأسهم التي قد تخترق رأسها  إن تحول الصوت إلى كلمة قد تُسمع فتكبلها قيود السامعين... صمت حبست نفسها فيه بسياج  غزلته من خيوط الصمت الذي يحميها ( شرنقة الصمت) ... لاتخرج منه لتطير إلا عندما تحلق في عالم النجوم...

 و في غرفة نوم البنات، وعندما تشرع في حل واجباتها المدرسية، تعطي ظهرها للمنزل وتستقبل الحائط، وتستغرق في عالم رطب وهش، يجعل ملامح وجهها تلين، فترتدي خوذتها وتستغرق في حل واجباتها، ورصد الرسومات التي يصنعها الطلاء المتقشر فوق الحائط، وعندها ربما تلتقي بتلك المرأة المصنوعة من مادة غبارية لامعة. لربما تكون غبارا لنجمة اندثرت وصنعت من خلاصة بريقها هذه المرأة التي تباغت (فضة) كثيرا ولاسيما في تلك اللحظة التي تضل عنها روحها، وعندما تعود تكون قد تأبطت هذه المرأة و تطير بها إلى عالم بريق المجرات، لامع كلمعان اسمها (فضة)

لم يكن المنزل سوى سجن كبير وضعت فيه هؤلاء النسوة ... وربما كان لكل منهم متنفسها الخاص الذي تخرج منه إلى عالم فسيح.. وكان العالم الذي تحلق منه فضة هو (الحائط ) الحائط الذي ليس له أبواب ونوافذ  كما للمنزل... ومع ذلك  فتحت ( فضة) من هذا الجدار الأسمنتي ...ومن صوره التي تتشكل من المقشر فوقه عالما خاصا بها ترجوه وتتمناه ..عالم المرأة الغبارية التي تلتقي بها دوما وتحلق معها بالصورة التي تريد أن تكون .. صورة الحرية ... الاعتبارية ... الكينونة... اتخاذ القرار... ( غبارية لامعة) الغبار الذي يجسد الثوران الداخلي ...وهو ليس غبار عادي..إنه غبار ذري[1]( تلك المرأة المصنوعة من مادة غبارية لامعة. لربما تكون غبار النجمة ) ... في عالمها الخاص فقط يحدث الانفجار... تتأبط هذه المرأة إلى عالم المجرات  تحلق في سماء الأمنيات ... المرأة الغبارية هو الصورة التي تريد أن تكونها... تصرخ ...وتصرخ.. وتصرخ... لكن تظل مجرد رجاء ...

ولكنها تستفيق....على واقعها وحقيقتها  التي  تعيشها كامرأة غير راضية عن نفسها  تفيق من حلم المرأة الغبارية لتتصارع مع المرأة التي تمثل واقعها وواقع بقية النساء في منزلها (رأت كتلة سوداء مدورة تبرز ببطء وحرص شديد من خلف زاوية الجدار، في تلك اللحظة تماما التي كادت فيها أن تنسحب متنهدة بارتياح )  واقع كالشبح المخيف واللص الذي يريد أن يسرق منها أجمل ما تملكه  الحلم الذي تعيشه  ... أغلقت الباب... استعانت بالسكين ... حقيقة مفزعة مرعبة .. ( زعقت) صوت زعاق يخرج من الأعماق يستنجد لا بد من قتلها  قبل أن تقضي عليها ... ولكنها عادت الكرة المدورة السوداء  التي تمثل سواد حياتها للظهور لتكشف عن وجه شاحب نحيف ...وتغلبت عليها بالمرأة النجمية ... (لكنها هجست بان المرأة النجمية هي التي رفعتها من تحت إبطيها بخفة وأسرعت بها إلى الداخل.) .. وكان الهواء مسمما.. كتسمم الأفكار حول  كينونتها.. وأنها كيان خاص...  له فكر مستقل ... هواء تحول إلى كتلة حديدية مزرقة  ،  يجب أن تركض قبل ان تلحقها هذه الكرة التي تشكل كدمة زرقاء مؤلمة في حياتها...وحاولت إغلاق الباب عليها وعلى محبوبتها النجمية حتى لا يتسلل إليها الضعف ... لكن ظل الباب مواربا ..رغم كل المحاولات... لتدخل منه ...

لو أنها أغلقت البوابة بإحكام لما وقفت خلفها بعد عام ...ليتسمم هواءها بحديد أزرق.. هذه المرة  الكدمة حفرت في جسدها ولن تستطيع الخلاص منها ...زواج كبلها لتعيش الواقع الذي فرضه والدها (المرأة  الكرة المدورة)  لتدور في حلقة مفرغة لا تعرف أين طرفها... ولتفقد النفس التي تمنت أن تكونها.

 لقد تركتها نفسها (المرأة الغبارية) ...حاولت الاحتفاظ بها ...لم يعد هناك باب  ستغلقه...يالله ترجو نفس هواء مزرق لعله سيساعدها  على قبول حياتها..التي لا يمكن أن تتخلى عنها... أفقد جبرها الهواء العائلي المسمم الذي نثرته في وجهها أمها.حينما جاءت تبكي وتطلب الخلاص من هذه الحياة. مجبرة إياها  بالانتظار حتى يأتي ابنها الأول... وأن تتخذ منها قدوة فقد أحبت والدتها وحياة( الكرة المدورة) بعد الإنجاب... حياة لم تجعل للهواء العليل أن يتنفس في أحلامها فتدخل المرأة  الغبارية التي تركتها وبجسارة وبلا مبالاة ...

يبدو أن المرأة الغبارية قد تخلصت من الشرنقة التي كانت تشاركها فيها .. فخرجت منها لتطلق إلى عالم النجوم لوحدها...لقد تحررت منها لتعود لعالمها...فلم تعد تراها، وربما سكنت نفس أختها (عائشة) التي تعيش  الحياة .. تحوطها البهجة والأنس ...والغنج والدلال .. ربما أصبحت ترافق المرأة... نعم، فمظهرها الخارجي وذلك الغبار اللامع الذي تنثره في أرجاء المكان هنا ...وهناك... وضحكاتها السعيدة يؤكد ذلك... أما (فضة ) لم تعد تلك الفضة البراقة ... اللامعة... انتصر اللون الأزرق .. واستطاع أن يحول بريقها . فأصبحت خضراء صدئة...

وصمت زعيق ذلك السؤال الذي كان يخفف ألمها وكبتها... بل ويمنحها الأمل في الحصول على إجابة ... ... فلم تعد تبالي به ...لأن الكرة المدورة سدت كل المنافذ.. ولم يعد هناك باب موارب ...لسؤال... وأمل في إجابة... ولم يعد هناك من عزاء لفضة إلا أن تصف  ( المراة الغبارية ) بأنها (امرأة شهوانية لعوب) ...

 

 



[1] (و ( الغَبَارُ الذَّرّيّ ) : ما يتكوَّن من مُشِعَّة ناتجة عن الانفجار الذَّرِّي ، تحمله الريح إِلى مسافات بعيدة عن موضع الانفجار ، حيث يترسَّب على الأَرض ، ويسبب ضررًا لما عليها من الأَحياء)


آخر تحديث
3/16/2018 1:51:08 PM