ملخص كتاب (تيار الوعي في القصة القصيرة السعودية 1970-1995م)


ملخص كتاب (تيار الوعي في القصة القصيرة السعودية 1970-1995م)

أهمية موضوع الأطروحة:

اختارت الباحثة هذا الموضوع لمقاربته نقدياً بعد اطلاعها على الإنتاج الإبداعي والنقدي في مجال القصة القصيرة السعودية لسببين، هما:

1-الطفرة التجريبية التي شهدتها القصة القصيرة السعودية في السبعينيات وما تمخض عنها من ظواهر بنائية مختلفة، يمثل بعضها تجديداً ثورياً على المستويين الفكري والشكلي، لعل من أبرزها وأخطرها ظاهرةَ (المنهج التياري) الذي جسد بظهوره في القصة الغربية مطلع القرن العشرين ثورات أسلوبية وفكرية، طابعها العنف والراديكالية والتحدي، فجّرتها الثورات العلمية والإنسانية ممثلةً في النظرية النسبية في العلوم الطبيعية، والديمومة البرجستونية في الفلسفة، واكتشاف القوى اللاشعورية الفردية والجمعية في علم النفس.

وتزامنت تلك الثورات مع الحربين العالميتين وما خلفتاه في العالم الغربي من الدمار النفسي المروع، وانهيار النظم الدينية والأخلاقية والاجتماعية ممهدةً جميعها لميلاد جيل التمرد والرفض من الشباب ومساهمةً في تغيير نظرته إلى الذات والآخر والعالم والكون بأسره تغييراً ثورياً، امتدت نزعاته التمردية إلى الأدب متخذة شكلَ حمى تجريبية نشطة بحثاً عن الأشكال الملائمة للتعبير عن أزمة الإنسان الغربي المعاصر.

2-القصور الذي يشوب الدراسات النقدية للقصة القصيرة  السعودية. ومن مظاهرة الفوضى المصطلحية، غياب التمييز بين المنهج التياري وأساليب وتقنيات سردية تقليدية أخرى استبطانية كانت "المناجاة" أو غير استبطانية كالسرد بواسطة الراوي لا سيما بضمير المتكلم.

وينحصر الإطار الزمني للبحث  في ربع قرن (1970-1995م) هو عمر هذه الظاهرة البنائية التي برزت في السبعينيات، ثم أخذت في الانحسار أواخر التسعينيات.

والكُتَّاب الذين تشملهم الدراسة هم (حسين علي حسين، خيرية السقاف، رقية الشبيب، سباعي عثمان، سليمان الحماد، عبد الله السالمي، علي حسّون، فاروق جمجوم، قماشة السيف، ناصر العديلي).

ويتناول البحث تيار الوعي باعتباره أسلوباً سردياً له إشكالياته الخاصة، استنبتته عوامل فكرية معينة، شكلت أسسَه المعرفية ومفاهيمه الخاصة للزمن والشخصية والواقعية، وقسماته المميزة بهدف الكشف عن مساهمته في تشكيل القصة القصيرة السعودية تشكيلاً جديداً، يقاطع الأشكالَ القديمة فكرياً وفنياً.

لقد تمكن القاص الغربي بواسطة السرد التياري من نسف بنيان القصة التقليدية الراسخ بجميع عناصره البنائية من أساسه ليشيّد على أنقاضه بنيةً هلامية، قوامها التفتيتية والبعثرة المنهجية على جميع مستوياتها البنائية مستبدلاً المفاهيمَ الكلاسيكية السكونية الخارجيةَ للشخصيةِ، والزمنِ، والواقعيةِ بمفاهيم جديدة طابعها، النسبية والديناميكية والتفتيتية محوِّلاً الأنظارَ من العالم الخارجي إلى أعماق الذهن البشري مسرح الدراما الحقيقية القوية المعقدة حيث تلعب الذات دورها في اليقظة والمنام كاشفةً عن تيار وعيها الديمومي بطبقاته الشعورية المختلفة الواعية واللاواعية، وبأشكاله البدائية المستوعبة للماضي السلالي البشري، وفي مراحله غير المكتملة التي تسبق مستوى الكلام حيث تكون الذات الجوهرية الأصيلة خاضعة لزمنها السيكولوجي الخاص والعام في آن. ويغدو تصوير هذه الدراما الذهنية تصويراً واقعياً حياً غايةَ القصة التيارية لتقديم هوية الذهن البشري وطبيعة عملياته الذهنية وآلياته السيكولوجية ما يجعلها ممثلةً للوجودية العامة لاهتمامها بالوجود النفسي الوظيفي للإنسان أي  ماهيته العقلية، ويحلّ الزمن السيكولوجي الخاص بأزمنته المتداخلة المعقدة محلَّ التسلسل الزمني التعاقبي، ويغدو الأسلوبُ شظايا، والشخصيةُ فتاتاً مبعثراً.

تغير مفهوم الواقعية تغيراً انقلابياً، إذ لم تعد خارجيةً، مرجعها العالم الخارجي وما يحكمه من ظواهر وقوانين، وما يسوده من علاقات بشرية، بل باطنيةً نفسية، مرجعُها الذات الإنسانية وما يحكمها من قوى لاواعية، تتمثل فيها الحقيقة خاصة بعد أن زعزعتِ الاكتشافاتُ الفرويدية والبرجسونية على حد سواء الثقةَ في الفعل الواعي وحده مصدراً لمعرفة النفس، وزرعتِ الثقةَ بالقوى النفسية غير الواعية حيث تتمثل ذواتنا الحقيقية وكل ما هو جوهري أصيل من شخصياتنا، وبناء على ذلك "لا يكون الواقع موجوداً في الذهن وحسب، بل إنه تحت رحمة الأمزجة والنزوات في ذلك الذهن يتمدد ويتقلص مع درجة نشاط الوعي" ويتفتت إلى ذرات بفعل الذاتية المفرطة لوجهة النظر تلك، فتصير الواقعية إفساداً للواقع.

وفرضت طبيعة الموضوع وإشكالياته منهج المقاربة النقدية، وهو تحليلي نصوصي ذو طبيعة ألسنية لأن تيار الوعي "ليس تكنيكاً لذات التكنيك، ولكنه أسلوب يعتمد على إدراك قوة الدراما التي تعتمل في أذهان البشر "

 

نتائج البحث:

تتلخص  نتائج البحث في أن التقنيات التيارية شكلت في السبعينيات  ظاهرة بنائية واضحة في القصة القصيرة السعودية، أثمرها نضج الوعي الفكري بالذات والمجتمع والكون لدى جيل كتابها الشباب ممن انفتح فكرياً على الثقافتين الغربية والعربية من خلال الاطلاع على فكر النزعة الذاتية المفرطة والثورة والتمرد في الرواية التيارية الغربية والعربية، وتخير تيار الوعي لملاءمته أكثر مما عداه للتعبير عن دينامية الواقع المحلي المتغير تغيراً متسارعاً إبان الطفرة السبعينية وآثارها المصدِّعة للأعماق النفسية المتجلية في انعدام التكيف والتوافق الاجتماعي، ولمرونته الزمنية التي تسمح بالحركة الحرة بين الواقع الآني المتحوِّل والماضي الغابر والمستقبل الـمُسْتَشرَف بناء على المعطيات الراهنة.

وتتميز القصة القصيرة التيارية على المستوى الفكري بالتردد بين الاجتماعي والإنساني والميتافيزيقي فمن القضايا التي تطرحها علاقة الرجل بالمرأة، وقضايا الموت والزمن والمطلق والفضاء السيكولوجي، والعزلة والاغتراب بمختلف ضروبه.

وتتباين أساليب الطرح باختلاف منطلقاته وأطره الفكرية ووجهات نظر القاص. وهي تتراوح في قضية علاقة الرجل بالمرأة بين الوجدانية المحضة والفلسفية الميتافيزيقية، فمثلاً يتناولها "سباعي عثمان، وخيرية السقاف" من منظور ميتافيزيقي، وفي نطاق البحث عن الذات الوجودية والروح والمطلق عند الأول، والبحث بواسطة الحدس عن المعنى والحقيقة الباطنية عند الثانية.

ويشكل هذا البحث الميتافيزيقي ملتقى القصة المحلية بالرواية التيارية الغربية المولعة به إلى حد بعيد.

ويعد "سباعي عثمان" أول من طرح فكرة الفضاء السيكولوجي في قصة (شرخ في فراغ) مستثمراً في بنائها فكرةَ نسبية الزمان والمكان في النظرية النسبية، وفكرةَ الزمان السيكولوجي ونسبيتهُ التي تشكل الأساسَ الفلسفي لتيار الوعي.

وتُطرح قضايا العزلة والاغتراب والتمرد من منظور مجتمعي وميتافيزيقي، وهي إما وضع اجتماعي تفرضه الظروف المجتمعية وتسلطية الرجل على المرأة كما تصوره القصة النسائية عند "خيرية السقاف، ورقية الشبيب، وقماشة السيف" أو وضع إنساني عام في القصة الذكورية عند "السالمي، وحسين".

والتمرد في القصة النسائية اجتماعي، غايته التحرر من الطوق المجتمعي المفروض على المرأة ممثلاً في سلطة الرجل المستبد، ويقف عند حدود التمرد الذهني السلبي في الأحلام عند "الشبيب والسقاف"، ولكنه يتخذ مساراً عملياً إيجابياً عند السيف، يمثله رحيل البطلة عن واقعها باعتباره الخطوةَ الأولى الضرورية لتحقيق انتماء حقيقي للوطن وفقاً لوجهة نظرة القاصة الفلسفية في الالتزام البرجماتي الوطني المنطلق من قاعدة ذاتية قائمة تتجسد في الإيمان بالفرد.

وتحقق القصة الذكورية حظوظاً متفاوتة ومتباينة من النجاح في تصوير السمات الذهنية والأسلوبية الخاصة بتيار الوعي. أما القصة النسائية فتشارف تخوم التقنيات التيارية، وتلامسها في عدد محدود  من القصص، فمجموعة السقاف (أن تبحر نحو الأبعاد) لا تضم سوى قصة تيارية واحدة، تعتمد الدراما الذهنية، وتحقق بعض ديناميات الحلم وخصائصه السيكولوجية، وتعكس فرطَ النشاط الذكروي في الأحلام وانبثاقَ المكبوتات اللاشعورية الفردية والجمعية، ولكنها تقع في بعض المزالق الفنية كتفسير الرموز، والتفكير العقلاني المنافي لطبيعة التفكير الحلمي.

وتخفق تجربتا حسون وجمجوم في تحقيق المقومات التيارية، إذ يستغل الأولُ تيارَ الوعي لتصوير أعلى درجات التفكير العقلاني الـمُنَظَّم بلغة منطقية متماسكة تقريرية، ويقع الثاني في مأزق تورط فيه آخرون ، هو الهندسة التنظيمية الصارمة المنافية للخاصية التيارية الأساسية, هي اللاتوجه واللاهدفية والفوضوية المطلقة.

ويستخدم الحمادُ في (الآلة تسرقني ذهني) تيارَ الوعي بإمكانياته الدينامية وطاقاته الذهنية الهائلة لتصوير سكونيةِ الذهن البشري واجترارِه فكرةَ واحدة لا يحيد عنها في اليقظة والأحلام الخارجةِ بداهة عن نطاق السيطرة البشرية، ويعالجُها بعقلانية شديدة ومنطق حاد، قلبت المونولوجات الداخلية مقالات.

وثمة منزلق فني آخر ينذر بتحول القصة التيارية إلى سيرة ذاتية لمؤلفها، وهو تشابهها فكراً وأسلوباً تشابهاً يقوض واقعية تداعياتها الذهنية وخصوصيتها، ويدل على صدورها عن ذهن كاتبها مجسدةً همومَه الفكرية ورؤيتَه.

ويُعَدُّ "السالمي،وحسين,وعثمان" تياريين لإخلاصهم للسرد التياري وتوفيقهم إلى حد كبير في تحقيق غالبية السمات التيارية بنسب متفاوتة مثل انعدام الاستمرارية، والدرامية، وتعددية الأصوات، والدينامية  (ومن صورها التكرارُ والتغيرُ البالغُ حدَّ التناقضِ، والقطعُ، والبترُ, والتفككُ واللاترابط، والوصلُ في مواضع الفصل، وحذفُ مصدرِ الحوار ومرجعيةِ الضمائرِ والأسماءِ والـمقاطعِ الحوارية، وسرعةُ التحول الضمائري واللغةُ العامية، والصورُ والرموزُ الفردية والنماذج البدئية) أي تهشم البنيتين النحوية والدلالية تهشماً يبلغ عند "السالمي" حد الخلط والتشوش الدلالي والغموض المفرط حيث لا تسعف انطوائية التداعي في جلائه.

وتعد القصة عند "السالمي" من أنجح التجارب المحلية وأكثرها تصويراً لطبيعة العمليات الذهنية وأجوائها الغامضة، وتنفرد بتوغلها في تصوير ذهن الشخصية في حالات فيضانية وفي مستويات لا شعورية عميقة.

أما التجربة السباعية فتقدم نموذجاً فذاً لاضطراب الذاكرة وتشوشها، في حين تنفرد التجربة العديلية باستغلال فكرةِ المونتاج الزماني في بناء تيار الوعي حيث يتم حصر الشخصية في المكان في حين ينطلق ذهنها في الزمان، وباعتمادِ تداخل الأزمنة التيارية في تشييد البناء الخارجي والداخلي لقصصه تأسياً بـ" فوكنر".

ولكن التجربة السعودية لم تأتِ نسخاً للتجربة التيارية الغربية فيما يتعلق بخصائصها التيارية وأسسها المعرفية، فهي على الرغم من توفيقها في استكشاف الأعماق اللاشعورية وتمثيلها ضرباً من البعثرة المنهجية والتهشم النسبي على مستويات أسلوبية وذهنية لم تتحول غالباً إلى هيولية وفوضى وحطام كامل. ومرد ذلك عدة أسباب، منها ندرة تصويرها حالات هذيانية وهلوسية حتى عند تصويرها للأحلام وحالة الذهان الهستيري، وعدم مخاطرتها بوظيفة اللغة التواصلية في سبيل وظيفتها الإشارية، وغياب التجريب اللغوي لتصوير مستويات من الوعي سابقة لمرحلة الكلام أو هذيانية متوغلة في طبقاته العميقة.

إضافةً إلى اعتماد الكتّاب عدةَ حيل أسلوبية لضمان وضوح التداعيات الذهنية، منها إيرادها في سياقها الأصلي كاملةً قبل تشظيتها وخلطها، واعتماد الترابطية المعلَّقة لفك شفراتها الرمزية وخصوصياتها الذهنية مما نجده في إنتاج "السالمي، وعثمان, والعديلي"، وتيسر محدوديةُ القصة القصيرة فضائياً لهذه الحيل الفنية تأديةَ دورها بنجاح.

وقد ترتب على تلك الأسباب جميعها محدودية الغموض في التجربة التيارية وندرة الإبهام الدلالي العام ,وهما في الأصل من أبرز الخصائص التيارية وأعظمها دلالة على طبيعة الأجواء الذهنية  الخاصة المجهولة المشوشة.

وتكشف التجربة التيارية السعودية  انفتاحها على آفاق الثقافة الغربية والعربية الموروثة شكلياً وفكرياً.

وتتمثل الثقافة الغربية في تأثير "جويس، وفوكنر" فالتأثير الجويسي ينعكس في احتذاء  وحدة (عوليس) الزمنية في قصص (الآلة تسرقني ذهني) و(مكعبات من الرطوبة) و(السباحة خارج الزمن)  للحماد والسالمي والعديلي، وفي شبه بطل قصة حسين (كل الطرق لا تؤدي إلى السبيل) لستيفن ديدالوس بمعاناته الغربةَ والعذابَ الضميري لأسباب متشابهة.

ويمتد التأثير الفوكنري ليشمل مضمون العمل القصص وبناءه الفني في تجربة العديلي الكاشفة عن تأثره السطحي به في معالجة قضايا الزمن.

أما الثقافة العربية فتتجلى آثارها في مساهمة موروثها الديني والتاريخي والأدبي والفلكلوري الشعبي في بناء القصة التيارية فكرياً وأسلوبياً عند الجنسين تعبيراً عن رؤاهم ووجهات نظرهم الفلسفية. وينطلق موروثها الجمعي من ذاكرة شخصياتها الثقافية عبر تيارات وعيها في اليقظة والمنام كما في إنتاج "حسين، والشبيب، والسقاف".

والزمن هو الشخصية الرئيسية في القصة التيارية، ويتمظهر من خلال حركة المواد الذهنية في الذهن وعبر أزمنتها السيكولوجية الخاصة بحيث تتجلى ديمومتها في صورة شبكة زمنية متداخلة متعالقة معقدة ذات خصوصية ذهنية فريدة ما يجعله ملمحاً أسلوبياً وبنائياً بارزاً في القصة التيارية فضلاً عن صيرورته بعداً هاما وأساسياً من أبعاد الشخصية.

ويسهم الوصف الطبوغرافي المكاني في رسم الشخصية التيارية عند "حسين, والسالمي" فيقدِّمُ من خلال علاقتها الوجودية بالمكان ومن منظور وعيها الذاتي وإدراكها له متخذاً شكلَ لازمةٍ متكررة ذات قيمة أسلوبية, تؤدي وظيفة أنثربولوجية، ترفد مضمونَ القصة الفكري مصوراً حالةَ الشخصية الاجتماعية والسيكولوجية.

أما الشخصية البشرية فتحولت من نمطية متماسكة موحدة كما هو الشأن في القصة التقليدية إلى هلامية متخلخلة، منقسمةٍ على ذاتها أنواتٍ متصارعةً متناقضةً، تكابد حالاتِ القلق والحيرة والاغتراب والحصار والقهر والإحباط سواء كانت اجتماعية الجذور أم ميتافيزيقية، أي تشكو انعدام التوازن السيكولوجي والانتماء المجتمعي في علاقتها بالذات والمجتمع ما يدحض رأي الدكتور نصر عباس في تمثيلها النموذجَ الإنساني وصيرورتِها مفهوماً وقضية عامة مطلقة، تحدد سمات الإنسان في عالمنا الإسلامي، وتكشف توازنه واستقراره النفسي وتوحده الكامل مع الذات الإلهية وذاته الشخصية وتلاحمه مع واقعه والآخرين. 

 


آخر تحديث
6/13/2016 6:03:34 PM